كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إذن فالمسافات انتهت، وجعلت المواصلات العالم كقطعة واحدة، إذن فالداءات في المجتمع القديم لعسر الاتصال كانت تنعزل انعزالًا إقليميًا وكل داء في جماعة قد لا يصل إلى الجماعة الأخرى، فهؤلاء لهم داء لا يصل إلى الجماعة الأخرى؛ لذلك كان الحق يرسل رسولًا لكل جماعة ليعالج داءاتها، لكن إذا التحم العالم هذا الالتحام؛ فلابد أن يأتي رسول واحد جامع للناس جميعًا؛ لأن قضايا الداءات ستكون واحدة. ونحن نرى الآن كل يوم عجبا، كلما تحدث حادثة هناك نجدها عندنا.
إذن فلابد أن تتوحد الرسالة. وحين تتوحد الرسالة فلا يأتي رسول ليستدرك بعد ذلك، فرسول الله صلى الله عليه وسلم جاء خاتمًا؛ ولذلك أخذ الله العهد على كل رسول أن يبشر قومه بأنه سيأتي رسول خاتم ليكون عند أهل كل ديانة خَلْفية تطمئنهم على أنه إذا جاء رسول، فقد عرفوا خبر مقدمه ويقولون: لقد قالت لنا رسلنا؛ ولذلك قال الحق: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81].
ثم قال: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81].
إذن فرسول الله مشهود له من كل الرسل؛ ولذلك أكد صلى الله عليه وسلم ديانات كل الرسل. وجاء دينه بديانات كل الرسل؛ لأنهم معه على منهجه الذي نزل به، والذين يلتحمون بالإيمان بالسماء بواسطة الرسل السابقين؛ إذا ما جاءهم خبر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقد يجعلهم تعصبهم لدينهم ينصرفون عنه، فأعطاهم الحق الخميرة الإيمانية وأوضح لهم: سيأتي رسول خاتم فتنبهوا يا كل الأقوام إذا ما جاء الرسول الخاتم فلابد أن تؤمنوا به. وكان عندهم في كتبهم الدلالات والإخبارات. إذن فالله أعطاهم نصيبًا من الكتاب. وانظروا إلى دقة الأداء القرآني: {أَلَمْ تَرَ} يا محمد {إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ} جاء هذا القول وهو يحمل لهم عذرهم إن فاتهم شيء من الكتاب؛ لأنه سيقول في آية أخرى.
{وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} [المائدة: 13].
وما داموا قد نسوا فهم معذورون، لكن من عندهم كفاية في العلم من الذين {أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ}، كان المفروض فيهم أن تكون آذانهم مستشرفة إلى صوت داعية الحق الخاتم، وهذا كان معروفا لهم من قبل؛ لذلك يقول لنا ربنا: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ} [البقرة: 89].
فهم كانوا يقولون لعبدة الأوثان من العرب: نحن في انتظار النبي الخاتم الذي سيرسله الله لنسبقكم إلى الإيمان به، فإذا ما سبقناكم إلى الإيمان به وظللتم على كفركم، سنقتلكم به قتل عاد وإرم. إذن فهم معتصمون بالإيمان بالسماء، فقل لي: إذا قالوا هذا القول، وهم معروفون أنهم أهل كتاب فلماذا كفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ إن كفار قريش لم يقولوا: إننا أهل كتاب، بل كانوا على فترة من الرسل، فكان المفروض أنه إذا جاء الرسول تسابق أهل الكتاب إلى الإيمان به لأنه سبق لهم أن توعدوا به العرب. لقد أعطاهم الله منزلة عالية لكنهم من لؤمهم لم ينتفعوا بها؛ فيقول الحق: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43].
لقد جعلكم الحق شهودًا على صدق الدعوة، هو شاهد وأنتم شهود، وهذه منزلة كبيرة، لكنهم لم يلتفتوا إلى تلك المنزلة وركبوا سفينة العناد الغارقة: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89].
ولكن يجب أن نفطن إلى أن الحق سبحانه وتعالى حينما يرسل قضية عقدية في الكون فيخالفها مخالف يظن أنه يضار الله، نقول له: لا أنت تفعل ذلك لشهوة في نفسك. لكن الحق سيجعلها لنصرة الدين الخاتم، وتكون أنت مغفلًا في هذا الموقف. فإياك أن تظن أنك قادر أن تصادر مرادات الله حين كذبت بمحمد وجعلك ربنا تقول هذه الكلمة للمشركين من قريش، فانتظر ماذا ستفعل هذه الكلمة؟. لكي تعرف أنت بإنكارك ماذا قدمت للإيمان. أنت فهمت أنك صادمت الإيمان. لا. أنت أيدت ونصرت الإيمان لكن بتغفيل! وعليك وزر.
فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلن دعوته من ربه. قال العرب المشركون الوثنيون: إن هذا النبي هو الذي توعدتنا به اليهود، فهيا نسبق إلى الإيمان به قبل أن يسبقونا.
إذن أخدموا الإيمان أم لا؟. لقد خدموا الإيمان. إذن فلا يظنن عاصٍ إنه يقدر أن يطفيء نور الله؛ لأن الله يتم نوره ولو كره الكافرون. ومثال لذلك عندما غير ربنا القبلة ويوضح: يا محمد أنا أعرف أنك مستشرف ومتشوق إلى أن تتوجه إلى الكعبة، وأنا قد وجهتك أولًا لبيت المقدس لمعنى. ولكن أنا سأوجهك للكعبة وعليك أن تلاحظ أنني حين أوجهك إلى الكعبة سيقول السفهاء وهم اليهود: {مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142].
فهم يتساءلون: ما الذي جعلهم يتركون القبلة التي كانوا عليها؟ فإن كانت قبلة إبراهيم هي الكعبة فلماذا لم يتجه إليها من أول الأمر؟ هم سيقولون هذا الكلام. ونزل به قرآن يتلى ويسجل. ومن تغفيلهم ساعة تغيرت القبلة قالوا ذلك القول أيضًا، ولم يلتفتوا إلى أن الحق قال من قبل: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ} [البقرة: 142].
فعلى الرغم من ذكائهم إلا أنهم قالوا هذا الكلام، مما يدل على أن الكفر مظلم والكافر في ظلام فلا يعرف كيف ينصر نفسه. وجعل الله الكفر وسيلة للإيمان. فلو أنهم كانوا أذكياء بحق أصحاب بصيرة لكانوا بمجرد أن قال القرآن: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا}، لجمعوا بعضهم وقالوا: القرآن قال: إننا سنقول كذا وكذا، فهيَّا لا نقول كي يكون القرآن غير صادق. لكنهم لم يقدروا على ذلك. إذن فالكافر مغفل. هم يظنون أنهم بكفرهم يطمسون الإيمان بالله. لا؛ لأن الله جعل الكفر وسيلة للإيمان، والحديث الشريف يقول: «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».
فالحق سبحانه وتعالى يبيّن: هؤلاء أوتوا نصيبًا من الكتاب، وكان المفروض لمن أوتوا نصيبًا من الكتاب أن يكونوا أول من آمن.
لكنهم لم يؤمنوا، هذه أول مرتبة، وليتهم اقتصروا في الشرّ على هذه، وبذلك تقف المسألة وتظل معلقة بهم، ولكنهم يشترون الضلالة، ليس فقط في نفوسهم بل يريدون أن يُضلوا غيرهم، وهذه هي المرحلة الثانية، فهناك من يَضِل في ذاته وهو حرّ، لكن أن يحاول إضلال غيره فهذا كفر مركب. أنت ضَلَلْت وانتهيت، فلماذا تريدني أن أضل؟ لأن الضال أو المنحرف أو الذي ليس على طريق مستقيم إنما يعرف الطريق المستقيم جيدًا. ولكن الصعوبة في أنه لا يستطيع أن يحمل نفسه عليه. فإذا ما وجد إنسانًا مؤمنًا فهو يستصغر نفسه، لماذا آمن هو وأنا لم أؤمن؟
إذن فلا أقل من أن يحاول جذبه في صفه حتى لا يكون هو المنحرف الوحيد، فإذا رأيت مثلًا في بلد من البلاد بعض المنحرفين، ويرون واحدًا مستقيمًا فهم يتضاءلون أمامه، وينظرون إليه نظرة حقد، ويقولون: لماذا هو مستقيم؟ لابد أن نسحبه للانحراف.
ولذلك يجب على المستقيمين أن ينتبهوا جيدًا إلى أن شياطين الإنس لن تتركهم في طاعتهم، بل إنهم سيحاولون أن يستميلوهم؛ لأنه يعزّ عليهم أنهم لا يقدرون على أنفسهم ويحزّ في نفوسهم أكثر أن يجدوا بشرًا مثلهم قد قدر على نفسه واستقام. ولذلك يقولون: هيا نكون كلنا معًا في المعصية حتى لا يرفع أحد رأسه على الآخر. فلنكن كلنا كذابين حتى لا يوجد فينا واحد صادق يذلنا. والكذاب كلما رأى الصادق يشعر أن هناك حربة تنغرز في قلبه!! والخائن ساعة يرى الأمين تكون الرؤية حربة تنزل في قلبه؛ فيريد أن يكون الكل مثله، هذه معنى {يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ}.
والحق يقول لهم: أنتم أحرار بشرائكم الضلالة وستجدون الجزاء في النار، فلماذا تريدون أن تضلوا الناس؟ إذن فيجب أن ينتبه أهل الطاعة إلى هذا الأمر، وعندما يستهزئ أحد من طاعتهم فعليهم أن يلتفتوا إلى قول الحق سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 29- 30].
وهذا ما يحدث إذا رأى بعض المنحرفين واحدًا يذهب إلى المسجد أو يصلي، يقولون له: خذنا على جناحك ويسخرون منه ويستهزئون، لأنهم ساعة يرونه مقبلًا على الطاعة وهم غير قادرين على أن يكونوا طائعين يتضاءلون أمام أنفسهم؛ لذلك يريدون أن يكون الكل الكل غير طائع، وهذه هي الصورة التي نراها الآن، وعندما يقابل هؤلاء أهاليهم يتضاحكون بسرور من أنهم ضايقوا مؤمنًا، ويقولون: قابلنا مؤمنًا واستهزأنا به، ويتابع الحق.
{وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَاؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 30].
فالله سبحانه وتعالى يوضح لنا: أن هؤلاء المستهزئين بالدين يتهمون المتدينين بأنهم على ضلال. فإياكم أن تيأسوا أمام هؤلاء، إياكم أن تهزموا أمام هؤلاء لأنني سأنتقم عيانًا من هؤلاء، وذلك يأتي يوم الآخرة ويقول الله بعد أن ينزل بهم النكال والعذاب: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 36].
فالحق يتساءل ليأتي الجواب على ألسنتنا، والسؤال هو: هل قدرنا أن نجازيهم على ما فعلوه فيكم؟ فاسخروا أنتم منهم، واضحكوا عليهم كما سخروا منكم في الدنيا.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ} وهم اليهود: {يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ}، وساعة تسمع كلمة يشتري أعرف أن هناك معاوضة ومبادلة، سلعة وثمنا، فيشترون الضلالة بماذا؟ ماذا سيدفعون؟ الحق يقول في آية أخرى: {اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16].
أي أنهم دفعوا الهدى ثمنًا وأخذوا الضلالة سلعة، وعادة ما ندفعه يضيع من يدنا، وما نشتريه نأخذه لنا. فحين تشتري سلعة بجنيه. فالجنيه يضيع، بعد أن كان معك أولًا، فحين يقول: {اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى} فهل كان معهم هدى وقدموه وأخذوا الضلالة؟! نعم، كان معهم هدى الفطرة. فكل واحد عنده هدى الفطرة.
إياك أن تظن أن العقل الواعي ينتظر رسولًا ليدله على الله، إنما هو ينتظر رسولا ليبلغه مرادات الله منه، ذلك أن الإيمان بالله أمر من أمور الفطرة، فالإنسان عندما يتفتح وعيه يجد أشياء في الكون تخدمه، خدمة مستقيمة رتيبة، ولا تتخلف عن خدمته أبدًا، هناك شمس تطلع كل يوم، وهواء يمر، أرض عندما تزرعها تعطيك خيرًا كثيرا. ألك قدرة على شيء من هذا؟ هل ادعي إنسان مثلك أن له قدرة عليه؟ كل هذه الكائنات أنت تطرأ عليها، ولم تأت بها.
وعندما يولد الإنسان ويرى كل هذه النعم موجودة. ألا يؤمن بأنها من عطاء خالق؟ الإنسان فوجيء عندما ولد بوجود النعم. وأيضًا آدم عندما خلق فوجيء بالنعم موجودة، إذن فهو طرأ عليها، بالله ما دام هو قد طرأ عليها ألا يفكر من الذي أقام هذه النعم له؟ كان لابد أن يفكر من الذي صنع له كل هذه النعم، وضربنا من قبل مثلًا بمن انقطعت به الوسائل وهو في الصحراء ولم يجد ماءً ولم يجد طعامًا، ثم يئس فنام، ثم استيقظ فوجد مائدة عليها أطايب الطعام، بالله قبلما يأكل ألا ينظر ويفكر ويقول في نفسه: من الذي أعدّ وأقام تلك المائدة؟ أنت- إذن- وارد على الكون بخيره كله، ولا أحد قال لك: أنا الذي فعلته، لا أبوك ولا جدك ولا جد جدك قال هذا، فلابد أن تنتبه إلى أن له خالقًا.
إذن فالذين اشتروا الضلالة بالهدى، أكان معهم هدى فقدموه وأخذوا الضلالة؟! نعم كان معهم هدى الفطرة، ولذلك حين سئل الإمام علي- كرّم الله وجهه-: أعرفت ربك بمحمد أم عرفت محمدًا بربك؟
قال: لو عرفت محمدًا بربي ما احتجت إلى رسول، إذن فلا يصلح أيضًا أن يقال لأحد عرفت ربك بمحمد؛ لذلك قال علي كرم الله وجهه: ولكني عرفت ربي بربي، وجاء فبلغني مراد ربي مني.
إذن فقوله: {الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ} ماذا فعلوا؟ باعوا هدى الفطرة واشتروا الضلالة. وهنا يقول الحق: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ}.
ولم يأت بهدى هنا، وهذا يدل على أن الفطرة انطمست عندهم انطماسا بحيث لم يقدموا ثمنًا للضلالة من الهدى.